التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تعليم بلا رؤية اقتصادية


تعليم بلا رؤية اقتصادية

أشار آدم سميث، أبو الاقتصاد، في أواخر القرن الثامن عشر، إلى أن المهارات التي يكتسبها الفرد من التعليم، تسهم كثيرًا في رفع مستوى دخله وتفيد مجتمعه، وأن المهارة العالية التي يمتلكها الإنسان، تشبه الآلة التي تسهّل العمل وتختصر عدد العمال وتحقق عائدًا مرتفعًا؛ رغم تكلفة شرائها. وبذلك وضع سميث جذور علم اقتصاديات التعليم التي تزامنت مع نشوء علم الاقتصاد. فافتراضات سميث ترى أن العنصر البشري مكوّن أساسي للإنتاج الاقتصادي، وأن المهارة الأفضل تعني إنتاج أعلى، وأن التعليم والتدريب وسيلة لرفع المستوى المهاري لدى الفرد. ولم يغب التعليم بعد ذلك عن كتابات الاقتصاديين، فقد ظهرت مقالات اقتصادية متخصّصة في التعليم في أمريكا وبريطانيا، خاصة في الثلث الثاني من القرن العشرين.
تلك كانت إرهاصات وبوادر علم اقتصاديات التعليم، أما ظهوره الحقيقي فكان في مطلع ستينيات القرن العشرين الميلادي، حيث يشار إلى الأمريكي تيودور شولتز
Theodore Schultz، إلى أنه أبو اقتصاديات التعليم، فخطاب ترؤسه للجمعية الاقتصادية الأمريكية، في ديسمبر 1960م، الذي كان بعنوان «الاستثمار في رأس المال البشري»، كان حجر الأساس لعلم اقتصاديات التعليم. وبدأ بناء علم اقتصاديات التعليم يتشكل بعد ذلك، بتزايد قناعات الاقتصاديين بأن جزءًا كبيرًا من النمو الاقتصادي يمكن تفسيره برأس المال البشري المتكون من خلال التعليم والتدريب، كما أخذت أساليب ومجالات البحث في اقتصاديات التعليم في التبلور.
بعد عام 1960م، زاد الإنتاج العلمي في مجال اقتصاديات التعليم على نحو سريع. ففي عام 1964م أصدر أستاذ اقتصاديات التعليم بجامعة لندن، مارك بلوق
Mark Blaug، قائمة ببليوغرافية لدراسات اقتصاديات التعليم ضمت حوالي 400 دراسة. وفي الطبعة الثانية لنفس القائمة الببليوغرافية، التي صدرت في عام 1966م، رصد بلوق حوالي 800 دراسة في مجال اقتصاديات التعليم، قبل أن يرتفع العدد إلى 1400 دراسة في الطبعة الثالثة (عام 1970م)، وإلى 2002 دراسة في الطبعة الرابعة (1987م)، ليجد بلوق نفسه مضطرًا للتوقف، لأن رصد كافة دراسات اقتصاديات التعليم بات غير ممكن.

أدوات تحليلية متفرّدة


يحسب للمنشغلين باقتصاديات التعليم تفردهم بأدوات تحليلية مؤثرة في تقييم السياسات التعليمية. فمن يقيّم البرامج والأنشطة الاجتماعية، من وجهة نظر تقييمية بحتة، يركز على مدى تحقق الأهداف المرغوبة (المخرجات)، أما الباحث الاقتصادي فإنه يهتم بالمخرجات والمدخلات (الموارد) معًا والعلاقة بينهما، وتوزيعهما جغرافيًا وعرقيًا، مما يمنح التقييم الاقتصادي أفضلية. ولذا فقد أكتسبت «اقتصاديات التعليم» مكانة مركزية من بين علوم تحليل السياسة التعليمية، لدرجة دفعت مارك بلوق، أحد أبرز رواد اقتصاديات التعليم، لأن يزعم أنه لم يكن ثمة وزير تربية مقدر لمسؤوليته، يمكن أن يتخذ قرارًا دون أن يستشير الاقتصادي الذي يجلس بجانبه.

مداخل اقتصادية للتعليم

يتمحور عمل الاقتصاديين في تقييم قطاع التعليم حول مفهومين: «الكفاءة
Efficiency» و«العدالة Equity». وتعني الكفاءة تحقيق الحد الأعلى من المخرجات بقدر معين معطى من المدخلات، أو تحقيق القدر المطلوب من المخرجات بقدر معين معطى من المدخلات. وتستند دراسة الكفاءة إلى منهجين رئيسين هما: تحليل الكلفة-الفاعلية Cost-effectiveness analysis وتحليل الكلفة-الفائدة Cost-benefit Analysis، اللذان يختلفان في أن الأول يقيس المخرجات في صيغة نواتج تعلم، عادة قصيرة المدى، والثاني يقيس المخرجات بقيم نقدية، عادة على المدى البعيد.

تحليل الكلفة الفاعلية

يتطلب تحليل الكلفة الفاعلية في معناه الدقيق، قياس الكلفة التي تعني مجموع قيم المدخلات، ثم قياس المخرجات، ومقارنة المخرجات بالمدخلات، ويكون البديل أفضل حينما يحقق نسبة مخرجات/مدخلات أعلى. وكثيرًا ما انشغلت دراسات اقتصاديات التعليم بمقارنة بدائل تقديم الخدمة التعليمية، وفقًا لمنهج تحليل الكلفة الفاعلية. فعلى سبيل المثال، حاولت دراسات عدة مقارنة المدارس الأهلية بالحكومية، بالنظر في كلفة الطالب في النمطين من المدارس، ثم أدائه في الاختبارات التحصيلية، وكشفت بعض تلك الدراسات عن تفوق المدارس الأهلية في فاعلية-الكلفة؛ مما قد يدعو لخصخصة التعليم.


وفي إطار منهج تحليل الكلفة الفاعلية، ورغم عدم التزامها الكامل بالمنهج، تقع دراسات تحليل الكلفة. فالقائم عل تحليل الكلفة يقوم بمقارنة قيم المدخلات المختلفة، ليقيم السياسات المبنية على تلك المدخلات، بافتراض أن لديه معرفة بمستوى المخرجات لكل بديل.


وكذلك، وفي إطار منهج تحليل الكلفة الفاعلية، تقع دراسات دوال الإنتاج التربوي
Educational Production Functions، وهي دراسات بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وأثرت كثيرًا في السياسات التعليمية، وما زالت ذات قيمة كبيرة لصناع القرار، وانبثق منها مؤخرًا مفهوم اقتصاديات الجودة Economics of Quality. تركز دراسات دوال الإنتاج على جانب المخرجات، وتقيس المخرجات عادة بنتائج الطلاب في الاختبارات التحصيلية، وتسعى لتحديد المدخلات المؤثرة في تحفيز المخرجات من أجل أن توصي بها كبدائل للسياسة التعليمية. ومن النتائج المهمة لدراسات دوال الإنتاج أن حجم الفصل لا يؤثر في التحصيل التعليمي، مما جعل السياسات التعليمية مترددة كثيرًا في استجابتها للضغوط الاجتماعية لتخفيض أحجام الفصول الدراسية. وأيضًا، وجدت دراسات دوال الإنتاج أن الفروق بين المعلمين في المؤهلات التعليمية لم تنعكس في أثر يجابي على التحصيل التعليمي، بمعنى أن التلاميذ لم يستفيدوا من معلميهم ذوي التأهيل العالي، لتثار علامات الاستفهام حول جدوى ربط الرواتب بالمؤهلات التعليمية. وبالمثل، أثيرت علامات استفهام حول جدوى ربط راتب المعلم بالخبرة، عندما لم تجد دراسات دوال الإنتاج أثرًا لخبرة المعلم في التحصيل التعليمي لتلاميذه. ولعل توجه السياسات التعليمية، في دول مختلفة عبر العالم، لربط راتب المعلم بأدائه، كان استنادًا إلى تلك النتائج.
ولقد كانت نتائج دراسات دوال الإنتاج التي ظلت تؤكد ضعف أثر الموارد التعليمية في مستوى المخرجات، محفزًا قويًا لسياسات التنافسية وقوى السوق، وكذلك سياسات المحاسبية، في القطاع التعليمي.


ومن التطورات الحديثة، الجديرة بالاهتمام، في تحليل دوال الإنتاج، التحليل الحدودي
Frontier Analysis، من خلال أسلوب تغليف البيانات وغيره. ومع أن تحليل دوال الإنتاج، وفق أساليب إحصاء الانحدار، بحسب التوضيح السابق، يتميز بقوته التفسيرية وتغطيته لجوانب مختلفة في العملية التعليمية، إلا أن الأساليب الحدودية أقرب لتحقيق مفهوم الكفاءة. يقوم التحليل الحدودي بالمقارنة المباشرة بين مجموعة المدخلات ومجموعة المخرجات، ويعطي رقمًا (يتراوح عادة بين صفر وواحد)، يعبر عن بعد المدرسة عن المنحنى الحدودي، أي بعد المدرسة عن أن تحقق الكفاءة.


تحليل الكلفة الفائدة

في حين يقابل تحليل الكلفة ــ الفاعلية الكفاءة الداخلية، فإن تحليل الكلفة-الفائدة يقابل الكفاءة الخارجية، بالنظر إلى أن المخرجات تقاس على المدى البعيد، بعد مغادرة النظام التعليمي والالتحاق بسوق العمل. في تحليل الكلفة-الفائدة، كل من المدخلات والمخرجات يقاس بقيم مالية. أي أن كلًا من بدائل السياسة التعليمية يقيم بمقارنة كلفته بفائدته النقدية؛ البديل الذي يحقق معدل فائدة إلى كلفة أعلى يمثل خيارًا أفضل للسياسة التعليمية، في حين لو فشل أي من البدائل في تحقيق معدل فائدة إلى كلفة أكثر من واحد (كانت الفائدة أقل من أو تساوى الكلفة)، فإن هذا يعني الإحجام عن اختيار أي من البدائل.

استندت دراسات تحليل الكلفة الفائدة (التي تعرف كذلك بدراسات تحليل معدل العائد) إلى مبادئ رأس المال البشري
Human Capital التي أسس لها جاري بيكر Gary Becker في ستينيات القرن الماضي، واتبعت طرقًا مختلفة، جبرية وإحصائية، وأثرت السياسات التعليمية كثيرًا بنتائجها. فقد أجرى الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي جورج ساكاروبولوس George Psacharopoulos سلسلة من المراجعات لتلك الدراسات، كان آخرها في عام 2004م، وكان أبرز ما توصل إليه من نتائج أن العائد أعلى للتعليم الابتدائي (مقارنة بالتعليم الثانوي والجامعي)، وبالتالي يجب أن تحظى هذه المرحلة من التعليم بأولوية الاستثمار. ولأن دراسات تحليل معدل العائد، ميزت بين العائد الفردي (بحساب الكلفة التي يتحملها الفرد فقط) والعائد الاجتماعي (بحساب الكلفة المؤسسية والكلفة الفردية معًا)، ووجدت أن الفرق كبير بين العائد الفردي والعائد الاجتماعي بالنسبة للتعليم العالي، فقد كانت خلف التوجه الملموس نحو إلغاء مجانية التعليم العالي، وتحميل الدارس جزءًا من كلفة تعليمه، سعيًا لإحداث توازن بين العائد الفردي والعائد الاجتماعي.

وفي حين يشترط في تحليل الكلفة ــ الفاعلية أن يكون التقييم لبدائل ذات أهداف موحدة، تتميز طرق تحليل الكلفة الفائدة بتقييم بدائل السياسة التعليمية متغايرة الأهداف، مثل مقارنة جدوى الاستثمار في مراحل التعليم المختلفة (الابتدائي، مقابل الثانوي، مقابل الجامعي) أو المسارات التعليمية المختلفة (مثلًا: التعليم الثانوي العام مقابل المهني). ولكن يعيب طرق الكلفة-الفائدة صعوبة الحصول على البيانات، خاصة أنها تتطلب الربط بين النظام التعليمي وسوق العمل.

وأيضًاً، ثمة مشكلات ترتبط بالافتراضات الأساسية التي تقوم عليها طرق تحليل العائد. فهي تفترض أن الدخل الذي يحصل عليه الفرد (الفائدة) مقياس لإنتاجيته، أي الفائدة الاجتماعية من تعليمه، وهو افتراض صعب التحقق، خاصة حينما يسود القطاع العام ويكون هو الموظِّف الرئيس في المجتمع، وينتفي التنافس الذي يحمل الفرد على العمل بطاقته الكاملة والمنشآت على استبعاد الأفراد قليلي الإنتاجية. ومن جانب آخر، فإن طرق تحليل العائد تقوم على افتراض أن الأفراد يقبلون على التعليم لغرض الاستثمار (فقط)، بحثًا عن فرص وظيفية أفضل مستقبلًا، بينما هناك من يطلب التعليم لغرض الاستهلاك (الفائدة الفورية)، أي الاستمتاع بالتعلم والعلم. كما أن طرق تحليل العائد لم تنجح في عزل أثر التعليم عن أثر القدرة الفردية، بينما هناك أطروحات، لا تخلو من القوة، تحتج بأن دور التعليم ينحصر في انتقاء الأفراد ذوي القدرات المرتفعة وإبرازهم لسوق العمل، وإبعاد الأفراد الأقل ذكاء، بمعنى أن التعليم لايسهم في تشكيل رأس المال البشري ولايضيف لقدرات الأفراد الإنتاجية.

إلا أن أصعب مشكلات طرق تحليل الكلفة-الفائدة هي ضعفها عن حصر الفوائد الاجتماعية للتعليم. فهي تكتفي بدخل الفرد في سوق العمل، بافتراض أنه يعادل إنتاجيته، أي مقدار مايضيفه لاقتصاد مجتمعه. بينما العائد من التعليم أوسع من ذلك. فالفرد المتعلم أكثر إفادة لبيئته المحلية، وأكثر قدرة على المحافظة على صحته، وأعلى كفاءة في دعم أطفاله تعليميًا، وأعلى مهارة في التأقلم مع النظم الاجتماعية، وعلى السلوك الاستهلاكي الرشيد.
تقاطع منهجي
رغم التمييز الآنف الذكر، إلا إن الدراسات الحديثة أحدثت تقاطعًا بين منهج الكلفة-الفاعلية ومنهج الكلفة-الفائدة؛ فعدد من دراسات دوال الإنتاج اختارت أن تقيس المخرجات بالدخل في سوق العمل، أو أداء الخريج في المرحلة التعليمية اللاحقة (مثلًا أداء خريج الثانوية في الجامعة، وهو قياس بعيد لمدى للمخرجات). وفي الجانب الآخر، بدأت دراسات تحليل العائد في الالتفات لأثر جودة التعليم في دخل الفرد؛ أي تقدير العائد لنوعية تعليم الفرد (مقاسة، عادة، باختبارات معرفية) إضافة إلى العائد للمؤهل التعليمي (أو لسنوات التعليم).

دراسات العدالة

إضافة إلى ما يتوقع من التعليم من إسهام في الارتفاع بمستوى رأس المال البشري، من خلال تنمية المعارف والمهارات والميول وبالتالي مستوى إنتاجية الأفراد في سوق العمل والنمو الاقتصادي للدولة، فإن التعليم يعول عليه كثيرًا في غرض العدالة الاجتماعية. وليست العدالة في التعليم قضية تفرضها المبادئ الأخلاقية والثقافية والاجتماعية فحسب، بل لها مبررها الاقتصادي. فمراعاة قضية العدالة في التعليم تعني زيادة درجة الاستيعاب في قوة العمل وتحويل أكبر عدد ممكن من المستهلكين إلى منتجين. بمعنى أن تحقيق درجة عالية من العدالة يضمن قاعدة عريضة من أفراد منتجين، بينما إهمال قضية العدالة كفيل بتوسيع قاعدة المستهلكين ضعيفي الإنتاج.

ولعل أهم أهداف العدالة تلك المرتبطة بمستوى الدخل، فالتعليم يتوقع منه أن يسهم في تقليل فوارق الدخل في إطار المجتمع، وفي تهميش دور المؤثرات الطبقية أو العرقية أو الجغرافية في تحديد مستوى الدخل. وبمعنى آخر، فالتعليم يتوقع منه أن يسهم بما يسمى بالحراك الاجتماعي الصاعد
Upward Social Mobility، أي خفض مستوى الفقر وإتاحة فرص كافية لأبناء الطبقات الدنيا والأقليات العرقية للحصول على مستويات دخل ينقلهم إلى الطبقات العليا. وعلى هذا الأساس جاءت فلسفة «ديمقراطية الجدارة Meritocracy»، بمعنى أن يكون محدد الدخل هو الجدارة وليس العوامل العرقية أو طبقية الدخل الاجتماعية.
وقد ركزت الدراسات الاقتصادية للعدالة على مقارنة تقسيمات المجتمع المختلفة (وفق المستوى الاجتماعي الاقتصادي للوالدين، التبعية العرقية، الجنس أو المنطقة الجغرافية)، على أساس مؤشرات عمومية التعليم (معدلات الالتحاق، مثلًا)، ومقاييس التحصيل التعليمي متمثلة في المؤهل التعليمي، أو عدد سنوات الدراسة، أو الترفيع من صف دراسي إلى آخر، أو التسرب، أو التحصيل في الاختبارات المعرفية. أيضًا، وباعتبار أن فائدة التعليم المجتمعية أمرًا مفروغًا منه، ولأن التعليم مسؤولية الدولة، فقد اهتمت مجموعة من الدراسات بقياس العدالة في تمويل التعليم، أي العدالة في توزيع الموارد على المدارس ومدى مراعاة مواقعها الجغرافية والتركيبة العرقية والطبقية الاجتماعية لطلابها.

ومما تجدر الإشارة إليه أن العدالة ترتبط بالكفاءة، فكل منهما يعد عنصرًا أساسيًا في دالة الرفاهية الاجتماعية التقليدية
Standard Social Welfare Function، وتتطلب السياسة التربوية موازنة بينهما. فبينما تقتضي العدالة العمل على تحقيق توزيع مثالي لمخرجات التعليم (التحصيل الدراسي أو الدخول أو غير ذلك) وتخصيص الموارد وسن السياسات على هذا الأساس، تقتضي الكفاءة زيادة مستوى المخرجات التعليمية، وبالتالي تخصيص الموارد على أساس تجنب الهدر والحرص على أن تكون أي زيادة في المدخلات ذات أثر إيجابي في المخرجات. بمعنى آخر، بينما تسعى سياسة العدالة إلى توزيع المخرجات التعليمية بشكل مثالي بين أطياف المجتمع المختلفة، تسعى سياسة الكفاءة إلى تعظيم مستوى المخرجات بدون اعتبار لتوزيعها؛ وهو توازن يحتاج للكثير من جهود السياسة التعليمية لكي يتحقق. فالدول المتقدمة بدأت في إدخال سياسات قوى السوق، من خلال ربط تمويل المدارس بعدد الطلاب المقيدين، وزيادة حرية أولياء الأمور في اختيار المدرسة، مع نشر قوائم للمدارس، مرتبة بحسب أدائها. سياسات كهذه قد تسهم في رفع مستوى الكفاءة، لأن المدارس ستتنافس على استقطاب الطلاب لزيادة دخلها، والطلاب سيبحثون عن المدارس الأفضل، ولكنها قد لاتكون جيدة في جانب العدالة، لأن المدارس الأميز قد تكون انتقائية، مما يؤدي إلى تجمع أبناء الطبقات الاجتماعية الأقل دخلًا في مدارس ضعيفة الأداء. ومن هنا فقد أجريت عدة دراسات تنشد ترشيد السياسات التعليمية فيما يتعلق بالموازنة بين الكفاءة والعدالة.

وعمومًا، فإن جانب العدالة، يعد محكًا رئيسًا في أي سياسة تجديدية تهدف لتحفيز الكفاءة في التعليم، سواء في إدخال قوى السوق، أو الخصخصة أو التحول نحو اللامركزية في الإدارة والتمويل. وظلت قضية العدالة تلقى الاهتمام من قبل باحثي اقتصاديات التعليم، سواء قيس المخرج التعليمي على المدى القصير بالتحصيل التعليمي، أو على المدى الطويل في سوق العمل، أو تركز الجهد البحثي في جانب المدخلات لاختبار العدالة في توزيع الموارد.

وهناك المزيد

فثمة دراسات المستوى المكبر التي تقارن بين الدول في النمو الاقتصادي، أو تتتبع النمو الاقتصادي للدولة الواحدة على مدى زمني طويل، وكشفت تلك الدراسات عن الكثير فيما يتعلق بالارتباط بين التعليم والنمو الاقتصادي، سواء قيس التعليم بالجوانب الكمية أو الجوانب النوعية. وهناك دراسات السياسات التمويلية، وأهمها تلك المتعلقة بتمويل التعليم العالي، خاصة مع التوجه الحديث نحو إنقاص مخصصات التعليم العالي من الخزينة العامة. فقد قارنت تلك الدراسات بين القروض والمنح، وقيمت الصيغ المختلفة للقروض، وبنيت عليها كثير من سياسات تمويل التعليم العالي. وأيضًا، تجدر الإشارة إلى دراسات تحليل الطلب على التعليم العالي التي كشفت عن الكثير بخصوص سلوك الطلب، وأظهرت أن فرص الالتحاق بالتعليم العالي ظلت أفضل لأبناء الطبقات الاجتماعية الاقتصادية الأعلى، مما قد ينعكس سلبًا على عنصر العدالة، إذا لم تكن هناك سياسات تحفيزية لأبناء الأسر الأقل دخلًا من خلال المنح أو غيرها.

فقد شهدت أبحاث اقتصاديات التعليم نموًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وبدأت مراكز الأبحاث المتخصصة في هذا المجال تظهر في جامعات الدول المتقدمة، ونشأت في عام 2004 رابطة خبراء أوروبا في اقتصاديات التعليم، كما وأصبح مقرر «اقتصاديات التعليم» أحد مقررات الدرجات الجامعية في مجال الاقتصاد، وطرحت برامج ماجستير ودكتوراه متخصصة في اقتصاديات التعليم.
ولكن أبحاث اقتصاديات التعليم تتغذى على البيانات. ففي الدول المتقدمة يستفيد باحثو اقتصاديات التعليم من قواعد بيانات ثرية، تقدمت كثيرًا مع تطور تقنية المعلومات، ويندر أن يحتاج الباحث لأن يقوم بالعمل الميداني المكلف لجمع البيانات. ويبدو أن هذه كانت العقبة الصعبة التي أعاقت أبحاث اقتصاديات التعليم في العالم العربي، رغم الحاجة الماسة إليها، لتقييم السياسات في أنظمة تعليمية تعد نامية، وتستهلك مستوى هائلًا من موارد المجتمع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور السياسات الاقتصادية في تحقيق منظومة الاستقرار الاقتصادي

دور السياسات الاقتصادية في تحقيق منظومة الاستقرار الاقتصادي من المهم التركيز على أهمية التنسيق بين السياسات الاقتصادية من أجل التوصل إلى استقرار اقتصادي تتجلى مظاهره في استمرار تحقيق لمعدلات نمو اقتصادي تواجهه التزايد المستمر في عدد السكان،  وفى إيجاد فرص عمل لاستيعاب البطالة التي تهدد السلم الاجتماعي والأمن الاقتصادي، وكذلك في أستقرر للمستوى العام للأسعار بما يحفظ للنقود قوتها الشرائية في الداخل والخارج. إن تحقيق الاستقرار الاقتصادي، كهدف لكل سياسات التنمية في دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، يستلزم التكامل بين الإجراءات المتخذة باستخدام الأدوات المتنوعة لكل السياسات الاقتصادية. إن هذا التكامل يشكل فيما بينها منظومة تتناسق أجزاؤها وتتفاعل أركانها،  حيث تؤثر كل أداة وتتأثر بالأدوات الأخرى على نحو متناغم ومتوازن من أجل تحقيق الغاية التي يسعى المجتمع دائماً إليها وهى الاستقرار الاقتصادي. وهكذا يمكن النظر إلى الفكر المنظومي باعتباره إطاراً للتحليل والتخطيط يمكننا من التقدم نحو أهداف واجبة التحقيق. تعرف"المنظومة "بأنها ذلك التركيب الذي يتألف من مجموعة من الأجزاء ا

جحيم البطالة / ظلام التضخم / فاشية الدولار / وانبطاح الجنيه

بداية اذا اجتمع عنوان هذا المقال في اقتصاد دولة ما فاعلم أنك لست في جمهورية الموز بل أنت في عرين الفساد والجهل . ولكي نستوعب حجم الكارثة في هيكل الاقتصاد المصري سنقسم عنوان المقال الي أجزاء في كل جزء نتعرف علي مفهومه ثم نحلل العلاقة بين كل جزء ونعني بالجزء هنا المصطلح ( بطالة / تضخم / سعر الصرف ) أولا :- البطالة – البطالة هي عجز نسبة من القوي البشرية القادرة علي العمل ( عدد السكان – الاحداث – المتقاعدين – الغير قادرين علي العمل بسبب الاعاقة = القوي القادرة علي العمل ) عن ايجاد فرص عمل أو هي الفرق بين الطلب علي العمل وعرض العمل وتحليل أنواع البطالة يؤدي الي اشكال متعددة نذكر أهمها مثل البطالة الاجبارية والتي تعني عجز قطاعات الانتاج عن استيعاب طالبي العمل والبطالة الهيكلية الناتجة عن سوء توزيع العمالة في الدولة والبطالة الموسمية والتي تعني تعطل شريحة بسبب ان مهنتهم موسمية والبطالة المقنعة مثل موظفي الحكومة الذين نسبة انتاجيتهم الحدية تساوي صفر نتيجة عدم وجود عمل حقيقي يقومون به السبب الرئيسي للبطالة ( انخفاض حجم الجهاز الانتاجي / الاستثمارات – زيادة الطلب عن العرض مع غياب دور

تحليل مبسط لبندي اجمالي الايرادات والمصروفات لموازنة 2016 – 2017

تحليل بندي اجمالي الايرادات والمصروفات لموازنة 2016 – 2017 بلغت الايرادات المتوقعة لموازنة 16 -17 ما مقداره 631.1 مليار جنيه بينما بلغت في موازنة 15-16 قدر 622.3 مليار بمقدار زيادة 8.8 مليار بمعدل زيادة 1.4 % عن ايرادات 15-16 في حين بلغت مصروفات 16-17 مقدار 936.1 مليار بينما كانت المصروفات المتوقعة ل 15-16 هي 864.6 مليار أي ان المصروفات زادت بمقدار 71.5 مليار بمعدل زيادة يبلغ 8.3 % . وهذا يعني ان معدل الزيادة في المصروفات ( 8.3 % ) أكبر من معدل الزيادة في الايرادات ( 1.4 % ) ليس بضعف او اثنان بل بست أضعاف فكما هو معلوم ومستقر في علم الاقتصاد والمالية العامة فانه اذا كانت معدل النمو في المصروفات يفوق معدل النمو في الايرادات فهذا يعني ويشير صراحة الي وجود فشل اقتصادي يتطلب اعادة الهيكلة فاذا ما اخذنا في الاعتبار الست اضعاف الفارق فنحن بصدد كارثة تهدد بالإفلاس . خاصة وان كل الحكومات والانظمة السابقة والحالية فشلت في اعادة الهيكلة وعلاج التشوهات الهيكلية بالاقتصاد . مما يعني استمرار تفاقم المشاكل الكلية للاقتصاد مثل (( التضخم والبطالة والدين العام والعجز الهيكلي في الموازنة ))